الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ. هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ حَقِيقَتُهَا هِيَ مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ. وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ. وَاحْتِمَالُ أَذَاهُمْ. فَهِيَ اسْتِعْمَالُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَهُمْ. فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَتِيجَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَاسْتِعْمَالِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرُوءَةِ: أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَعَمُّ مِنْهَا. فَالْفُتُوَّةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُرُوءَةِ. فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُ وَيُزَيِّنُ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعَبْدِ، أَوْ مُتَعَدٍّ إِلَى غَيْرِهِ. وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُ وَيُشِينُ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ أَيْضًا بِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ. وَالْفُتُوَّةُ إِنَّمَا هِيَ اسْتِعْمَالُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَهِيَ ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ: مَنْزِلَةُ التَّخَلُّقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ. وَمَنْزِلَةُ الْمُرُوءَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ. وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ، لَمْ تُعَبِّرْ عَنْهَا الشَّرِيعَةُ بِاسْمِ الْفُتُوَّةِ بَلْ عَبَّرَتْ عَنْهَا بِاسْمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا فِي حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنَ الْأَفْعَالِ. وَأَصْلُ الْفُتُوَّةِ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الْحَدِيثُ السِّنِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} وقال عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّهُمْ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} وقال تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } وقال لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ}. فَاسْمُ الْفَتَى لَا يُشْعِرُ بِمَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ، كَاسْمِ الشَّابِّ وَالْحَدَثِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِئِ اسْمُ الْفُتُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي لِسَانِ السَّلَفِ. وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهَا عِنْدَهُمْ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ. وَأَقْدَمُ مَنْ عَلِمْتُهُ تَكَلَّمَ فِي الْفُتُوَّةِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْجُنَيْدُ. ثُمَّ الطَّائِفَةُ. فَيُذْكَرُأَنَّ عَفْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنْ أُعْطِيتُ شَكَرْتُ. وَإِنْ مُنِعْتُ صَبَرْتُ. فَقَالَ: الْكِلَابُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ. فَقَالَ السَّائِلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. فَمَا الْفُتُوَّةُ عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَ: إِنْ أُعْطِينَا آثَرْنَا. وَإِنْ مُنِعْنَا شَكَرْنَا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْفُتُوَّةُ: الصَّفْحُ عَنْ عَثَرَاتِ الْإِخْوَانِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ- عَنْهُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. وَلَا أَعْلَمُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا سِوَاهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: لَا تُنَافِرُ فَقِيرًا، وَلَا تُعَارِضُ غَنِيًّا. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تَنْصِفَ وَلَا تَنْتَصِفَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ: الْفُتُوَّةُ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تَكُونَ خَصْمًا لِرَبِّكَ عَلَى نَفْسِكَ. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ فَضْلًا عَلَى غَيْرِكَ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: هَذَا الْخُلُقُ لَا يَكُونُ كَمَالُهُ إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نَفْسِي نَفْسِي , وَهُوَ يَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ: كَسْرُ الصَّنَمِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَفْسُكَ. فَإِنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْنَامَ جُذَاذًا. فَكَسَرَ الْأَصْنَامَ لَهُ. فَالْفَتَى مَنْ كَسَرَ صَنَمًا وَاحِدًا فِي اللَّهِ. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا تَكُونَ خَصْمًا لِأَحَدٍ. يَعْنِي فِي حَظِّ نَفْسِكَ. وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ، فَالْفُتُوَّةُ: أَنْ تَكُونَ خَصْمًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكُمُ الْمُقِيمُ وَالطَّارِئُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَهُ وَلِيٌّ أَوْ كَافِرٌ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ أَيْضًا: الْفُتُوَّةُ كَفُّ الْأَذَى وَبَذْلُ النَّدَى. وَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْوَفَاءُ وَالْحِفَاظُ. وَقِيلَ: فَضِيلَةٌ تَأْتِيهَا، وَلَا تَرَى نَفْسَكَ فِيهَا. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَحْتَجِبَ مِمَّنْ قَصَدَكَ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَهْرُبَ إِذَا أَقْبَلَ الْعَافِي. يَعْنِي طَالِبَ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: إِظْهَارُ النِّعْمَةِ وَإِسْرَارُ الْمِحْنَةِ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَدَّخِرَ وَلَا تَعْتَذِرَ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ. فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَأَى بِهَا الْجُدَرِيَّ. فَقَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي. ثُمَّ قَالَ: عَمِيتُ. فَبَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَاتَتْ. وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بَصِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يُحْزِنَهَا رُؤْيَتِي لِمَا بِهَا. فَقِيلَ لَهُ: سَبَقْتَ الْفِتْيَانَ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ تَرْبَحَ عَلَى صَدِيقِكَ. وَاسْتَضَافَ رَجُلٌ جَمَاعَةً مِنَ الْفِتْيَانِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِيهِمْ. فَانْقَبَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ تَصُبَّ النِّسْوَانُ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ. فَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: أَنَا مُنْذُ سِنِينَ أَدْخُلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةً تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِينَا أَوْ رَجُلًا. وَقَدِمَ جَمَاعَةُ فِتْيَانٍ لِزِيَارَةِ فَتًى. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا غُلَامُ قَدِّمِ السُّفْرَةَ. فَلَمْ يُقَدِّمْ. فَقَالَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَلَمْ يُقَدِّمْ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ الرَّجُلُ مَنْ يَتَعَاصَى عَلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ السُّفْرَةِ كُلَّ هَذَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: لِمَ أَبْطَأْتَ بِالسُّفْرَةِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: كَانَ عَلَيْهَا نَمْلٌ. فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَدَبِ تَقْدِيمُ السُّفْرَةِ إِلَى الْفِتْيَانِ مَعَ النَّمْلِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْفُتُوَّةِ إِلْقَاءُ النَّمْلِ وَطَرْدُهُمْ عَنِ الزَّادِ. فَلَبِثْتُ حَتَّى دَبَّ النَّمْلُ. فَقَالُوا: يَا غُلَامُ. مِثْلُكُ يَخْدُمُ الْفِتْيَانَ. وَمِنَ الْفُتُوَّةِ الَّتِي لَا تُلْحَقُ: مَا يُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا نَامَ مِنَ الْحَاجِّ فِي الْمَدِينَةِ. فَفَقَدَ هِمْيَانًا فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَامَ فَزِعًا. فَوَجَدَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَعَلِقَ بِهِ. وَقَالَ: أَخَذْتَ هِمْيَانِي. فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَأَدْخَلَهُ دَارَهُ وَوَزَنَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ وَجَدَ هِمْيَانَهُ، فَجَاءَ إِلَى جَعْفَرٍ مُعْتَذِرًا بِالْمَالِ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ. وَقَالَ: شَيْءٌ أَخْرَجْتُهُ مِنْ يَدِي لَا أَسْتَرِدُّهُ أَبَدًا. فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": نُكْتَةُ الْفُتُوَّةِ: تَعْرِيفُهَا أَنْ لَا تَشْهَدَ لَكَ فَضْلًا. وَلَا تَرَى لَكَ حَقًّا. يَقُولُ: قَلْبُ الْفُتُوَّةِ، وَإِنْسَانُ عَيْنِهَا: أَنْ تَفْنَى بِشَهَادَةِ نَقْصِكَ، وَعَيْبِكَ عَنْ فَضْلِكَ. وَتَغِيبَ بِشَهَادَةِ حُقُوقِ الْخَلْقِ عَلَيْكَ عَنْ شَهَادَةِ حُقُوقِكَ عَلَيْهِمْ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا مَرَاتِبُ. فَأَشْرَفُهَا: أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. وَأَخَسُّهَا: عَكْسُهُمْ. وَهُمْ أَهْلُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ فَضَائِلِهِمْ عَنْ عُيُوبِهِمْ. وَشُهُودِ حُقُوقِهِمْ عَلَى النَّاسِ عَنْ شُهُودِ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ. وَأَوْسَطُهُمْ: مَنْ شَهِدَ هَذَا وَهَذَا. فَيَشْهَدُ مَا فِي الْعَيْبِ وَالْكَمَالِ. وَيَشْهَدُ حُقُوقَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَحُقُوقَهُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَرْكُ الْخُصُومَةِ. وَالتَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ، وَنِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنْ بَابِ التَّرْكِ وَالتَّخَلِّي. وَهِيَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ أَحَدًا. فَلَا يُنَصِّبُ نَفْسَهُ خَصْمًا لِأَحَدٍ غَيْرَهَا. فَهِيَ خَصْمُهُ. وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَيْضًا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. لَا يُخَاصِمُ بِلِسَانِهِ. وَلَا يَنْوِي الْخُصُومَةَ بِقَلْبِهِ. وَلَا يُخْطِرُهَا عَلَى بَالِهِ. هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ رَبِّهِ: فَالْفُتُوَّةُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاللَّهِ وَفِي اللَّهِ. وَيُحَاكِمَ إِلَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: وَبِكَ خَاصَمْتُ. وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ وَهَذِهِ دَرَجَةُ فُتُوَّةِ الْعُلَمَاءِ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَحَدٍ زَلَّةً يُوجِبُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ أَخْذَهُ بِهَا: أَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهَا، لِئَلَّا يُعَرِّضَ صَاحِبَهَا لِلْوَحْشَةِ. وَيُرِيحَهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْعُذْرِ. وَفُتُوَّةُ التَّغَافُلِ: أَرْفَعُ مِنْ فُتُوَّةِ الْكِتْمَانِ مَعَ الرُّؤْيَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْ حَاتِمًا عَنْ مَسْأَلَةٍ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا صَوْتٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. فَخَجِلَتْ. فَقَالَ حَاتِمٌ: ارْفَعِي صَوْتَكِ. فَأَوْهَمَهَا أَنَّهُ أَصَمُّ. فَسُرَّتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ. فَلُقِّبَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ وَهَذَا التَّغَافُلُ هُوَ نِصْفُ الْفُتُوَّةِ. وَأَمَّا نِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ فَهُوَ بِأَنْ تَنْسَى أَذِيَّةَ مَنْ نَالَكَ بِأَذًى، لِيَصْفُوَ قَلْبُكَ لَهُ. وَلَا تَسْتَوْحِشَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَهُنَا نِسْيَانٌ آخَرُ أَيْضًا. وَهُوَ مِنَ الْفُتُوَّةِ. وَهُوَ نِسْيَانُ إِحْسَانِكَ إِلَى مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ. وَهَذَا النِّسْيَانُ أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَفِيهِ قِيلَ: يَنْسَى صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا *** إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ. وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيكَ. وَتَعْتَذِرَ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ، سَمَاحَةً لَا كَظْمًا، وَمَوَدَّةً لَا مُصَابَرَةً. هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْعَبُ. فَإِنَّ الْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّغَافُلَ. وَهَذِهِ تَتَضَمَّنُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَمُعَامَلَتَهُ بِضِدِّ مَا عَامَلَكَ بِهِ. فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ خُطَّتَيْنِ. فَخُطَّتُكَ: الْإِحْسَانُ. وَخَطَّتُهُ: الْإِسَاءَةُ. وَفِي مَثْلِهَا قَالَ الْقَائِلُ: إِذَا مَرِضْنَا أَتَيْنَاكُمْ نَعُودُكُـمُ *** وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ وَنَعْتَذِرُ وَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَمَا يَنْبَغِي فَلْيَنْظُرْ إِلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ يَجِدْهَا هَذِهِ بِعَيْنِهَا. وَلَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لِأَحَدٍ سِوَاهُ. ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ مِنْهَا بِحَسَبِ سِهَامِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ. وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَجْمَعَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْأَكَابِرِ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي لِأَصْحَابِي مِثْلُهُ لِأَعْدَائِهِ وَخُصُومِهِ. وَمَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُمْ. وَجِئْتُ يَوْمًا مُبَشِّرًا لَهُ بِمَوْتِ أَكْبَرِ أَعْدَائِهِ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً وَأَذًى لَهُ. فَنَهَرَنِي وَتَنَكَّرَ لِي وَاسْتَرْجَعَ. ثُمَّ قَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهِ فَعَزَّاهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ مَكَانَهُ، وَلَا يَكُونُ لَكُمْ أَمْرٌ تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ إِلَّا وَسَاعَدْتُكُمْ فِيهِ. وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَسُّرُوا بِهِ وَدَعَوْا لَهُ. وَعَظَّمُوا هَذِهِ الْحَالَ مِنْهُ. فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَهَذَا مَفْهُومٌ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ فِي بَادِي الرَّأْيِ، إِذْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ جِنَايَةٌ تُوجِبُ اعْتِذَارًا، وَغَايَتُكَ: أَنَّكَ لَا تُؤَاخِذُهُ. فَهَلْ تَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ تُنْزِلُ نَفْسَكَ مَنْزِلَةَ الْجَانِي لَا الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْجَانِي خَلِيقٌ بِالْعُذْرِ. وَالَّذِي يُشْهِدُكَ هَذَا الْمَشْهَدَ: أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا سُلِّطَ عَلَيْكَ بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّكَ بَدَأْتَ بِالْجِنَايَةِ فَانْتَقِمْ بِالِلَّهِ مِنْكَ عَلَى يَدِهِ- كُنْتَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِذَارِ. وَالَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْكَ هَذَا كُلَّهُ: مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَعَلَيْكَ بِهَا. فَإِنَّ فِيهَا كُنُوزَ الْمَعْرِفَةِ وَالْبِرِّ. وَقَوْلُهُ: سَمَاحَةً لَا كَظْمًا. وَمَوَدَّةً، لَا مُصَابَرَةً. يَعْنِي: اجْعَلْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنْكَ صَادِرَةً عَنْ سَمَاحَةٍ، وَطَيِبَةِ نَفْسٍ، وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ، لَا عَنْ كَظْمٍ، وَضِيقٍ وَمُصَابَرَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي خُلُقِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ يُوشِكُ أَنْ يَزُولَ وَيَظْهَرَ حُكْمُ الْخَلْقِ صَرِيحًا فَتُفْتَضَحَ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِصْلَاحَ الْبَاطِنِ وَالسِّرِّ وَالْقَلْبِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْعُبُورِ عَلَى جِسْرِ الْمُصَابَرَةِ وَالْكَظْمِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَفْضَى بِهِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ. وَلَا تَشُوبَ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ. وَلَا تَقِفَ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ. أَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِهِ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ: فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، إِذْ يَقُولُ: وَفِي عِلْمُ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا. وَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ وَتَقْدِيرٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ يَسِيرُ عَلَى قَدَمِ الْيَقِينِ، وَطَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ الدَّلِيلِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ لَا اسْتِدْلَالِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَلِهَذَا لَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ قَطُّ الْأُمَمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَخَاطَبُوهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِ قَطُّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَدْلُولٍ هُوَ أَظْهَرُ مِنْ دَلِيلِهِ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ أَطْلُبُ الدَّلِيلَ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ فَتَقَيُّدُ السَّائِرِ بِالدَّلِيلِ وَتَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ يَقِينِهِ. بَلْ إِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّلِيلِ الْمُوصِّلِ لَهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ. فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ- بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ- إِلَى دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ: هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِهِ. لَا يَخْطُو خَطْوَةً إِلَّا وَرَاءَهُ. وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ يُشِيرُونَ إِلَى الْكَشْفِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالدَّلِيلِ أَصْلًا. وَلَا يُقَالُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ هَذَا؟ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّلُوكِ فِي مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَقَطْعِهَا مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَطْلُوبِ. فَوُصُولُهُ إِلَيْهِ بِالسَّيْرِ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ، بِخِلَافِ وُصُولِ الْمُسْتَدِلِّ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَطْلُوبُ الْقَوْمِ وَرَاءَهُ. وَالْعِلْمُ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ- كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَصْحَابَ الِاسْتِدْلَالِ: أَصْحَابَ الْقَالِ. وَأَصْحَابَ الْكَشْفِ: أَصْحَابَ الْحَالِ. وَالْقَوْمُ عَامِلُونَ عَلَى الْكَشْفِ الَّذِي يُحَصِّلُ نُورَ الْعِيَانِ، لَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي يُنَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ. وَهَذَا مَوْضِعُ غَلَطٍ وَاشْتِبَاهٍ. فَإِنَّ الدَّلِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ. وَهُوَ بَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. ثُمَّ إِنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ لَا يَقِفُ مَعَ الدَّلِيلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأُمُورِ وَأَشَدُّهَا خَطَرًا. وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَيَالِ وَالْمُحَالِ. فَمَنْ خَرَجَ عَنِ الدَّلِيلِ: ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَلُّقُهُ فِي الْمَسِيرِ بِالدَّلِيلِ: يُفَرِّقُ عَلَيْهِ عَزْمَهُ وَقَلْبَهُ. فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُفَرِّقُ وَالْمَدْلُولَ يُجَمِّعُ. فَالسَّالِكُ يَقْصِدُ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى الْمَدْلُولِ. فَمَا لَهُ وَلِتَفْرِقَةِ الدَّلِيلِ؟ قِيلَ: هَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَعْرَضَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ السَّالِكِينَ عَنِ الْعِلْمِ وَنَهَى عَنْهُ. وَجُعِلَتْ عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ هَذَا مِنْ زَمَنِ الشُّيُوخِ الْقُدَمَاءِ الْعَارِفِينَ فَأَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ وَمِنْ قَائِلِهِ. وَأَوْصَوْا بِالْعِلْمِ. وَأَخْبَرُوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ. لَا يُفْلِحُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْعِلْمِ. وَ الْجُنَيْدُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُبَالَغَةً فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَحَثًّا لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ. وَالتَّفَرُّقُ فِي الدَّلِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ. فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْجَمْعِيَّةِ حَقًّا إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالْعِلْمِ. فَالدَّلِيلُ وَالْعِلْمُ ضَرُورِيَّانِ لِلصَّادِقِ. لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا. نَعَمْ يَقِينُهُ وَنُورُ بَصِيرَتِهِ وَكَشْفُهُ: يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا الْمُتَكَلِّفُونَ، وَأَرْبَابُ الْقَالِ. فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا. وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ. مِثَالُهُ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُفْنِي زَمَانَهُ فِي تَقْرِيرِ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عِنْدَ السَّالِكِ الصَّادِقِ صَاحِبِ الْيَقِينِ. فَالَّذِي يَطْلُبُهُ هَذَا بِالِاسْتِدْلَالِ- الَّذِي هُوَ عُرْضَةُ الشَّبَهِ، وَالْأَسْئِلَةِ، وَالْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا- هُوَ كَشْفٌ وَيَقِينٌ لِلسَّالِكِ، فَتَقَيُّدُهُ فِي سُلُوكِهِ بِحَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ انْقِطَاعٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْفُتُوَّةِ. وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَارِفٌ، فَتَرَى الْمُتَكَلِّمَ يَبْحَثُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأَكْوَانِ، وَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا لَا يَعُدُوهَا لِيَصِلَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ. وَالسَّالِكُ قَدْ جَاوَزَهَا إِلَى جَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِسِوَاهُ. فَالْمُتَكَلِّمُ مُتَفَرِّقٌ مُشْتَغِلٌ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْعَارِفُ قَدْ شَحَّ بِالزَّمَانِ أَنْ يَذْهَبَ ضَائِعًا فِي غَيْرِ السَّيْرِ إِلَى رَبِّ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَتَعَلَّقُ فِي سَيْرِهِ بِدَلِيلٍ. وَلَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِلَّا خَلْفَ الدَّلِيلِ، وَكِلَاهُمَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ. فَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ. وَلَا يَسْتَغْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. فَسَيْرُ الصَّادِقِ عَلَى الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ وَالْكَشْفِ، لَا عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَشُوبُ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ. أَيْ تَكُونُ إِجَابَتُكَ لِدَاعِي الْحَقِّ خَالِصَةً، إِجَابَةَ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ، وَطَلَبٍ لِلْمَحْبُوبِ ذَاتِهِ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُظُوظِ وَالْأَعْوَاضِ، فَإِنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَكَ حَصَلَ لَكَ كُلُّ عِوَضٍ وَكُلُّ حَظٍّ بِهِ وَكُلُّ قَسَمٍ. كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي، وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ مَا سِوَى اللَّهِ، وَلَمْ يَشُبْ طَلَبَهُ لَهُ بِعِوَضٍ، بَلْ كَانَ حُبًّا لَهُ، وَإِرَادَةً خَالِصَةً لِوَجْهِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يَفُوزُ بِالْأَعْوَاضِ وَالْأَقْسَامِ وَالْحُظُوظِ كُلِّهَا. فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهَا غَايَةَ طَلَبِهِ، تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ فِي حُصُولِهَا. وَهُوَ مَحْمُودٌ مَشْكُورٌ مُقَرَّبٌ. وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَطْلُوبَةً لَنَقَصَتْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِهَا وَإِرَادَتِهَا عَنْ طَلَبِ الرَّبِّ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَهَذَا قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهَا وَالْحَاصِلُ لَهُ مِنْهَا: نَزْرٌ يَسِيرٌ. وَالْعَارِفُ لَيْسَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كُلُّهَا. فَالزُّهْدُ فِيهَا لَا يُفِيتُكُهَا، بَلْ هُوَ عَيْنُ حُصُولِهَا. وَالزُّهْدُ فِي اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُفِيتُكَهُ وَيُفِيتُكَ الْحُظُوظَ. وَإِذَا كَانَ لَكَ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ. أَحَدُهُمْ: يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى مَرْضَاتِكَ. وَالثَّانِي: يُرِيدُ مِنْكَ وَلَا يُرِيدُكَ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُظُوظِهِ مِنْكَ. وَالثَّالِثُ: يُرِيدُكَ وَيُرِيدُ مِنْكَ. وَالرَّابِعُ: لَا يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ. بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْقَلْبِ بِبَعْضِ عَبِيدِكَ. فَلَهُ يُرِيدُ. وَمِنْهُ يُرِيدُ. فَإِنَّ آثَرَ الْعَبِيدِ عِنْدَكَ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْكَ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْكَ مَنْزِلَةً، وَالْمَخْصُوصَ مِنْ إِكْرَامِكَ وَعَطَائِكَ بِمَا لَا يَنَالُهُ الْعَبِيدُ الثَّلَاثَةُ- هُوَ الْأَوَّلُ. هَكَذَا نَحْنُ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَقِفْ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ. فَيَعْنِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْكَ نَظَرٌ إِلَى السِّوَى عِنْدَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرِارًا. وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ. فَإِنَّ الشُّهُودَ إِذَا صَحَّ مَحَا الرُّسُومَ ضَرُورَةً فِي نَظَرِ الشَّاهِدِ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا. وَالشُّهُودُ الصَّحِيحُ مَاحٍ لَهَا بِالذَّاتِ. لَكِنَّ أَوَّلَهُ قَدْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْكَسْبِ. وَنِهَايَتُهُ لَا تَقِفُ عَلَى كَسْبٍ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عَدُوَّهُ إِلَى شَفَاعَةٍ، وَلَمْ يَخْجَلْ مِنَ الْمَعْذِرَةِ إِلَيْهِ: لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْفُتُوَّةِ. يَعْنِي أَنَّ الْعَدُوَّ مَتَّى عَلِمَ أَنَّكَ مُتَأَلِّمٌ مِنْ جِهَةِ مَا نَالَكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْكَ، وَيُشَفِّعَ إِلَيْكَ شَافِعًا يُزِيلُ مَا فِي قَلْبِكَ مِنْهُ. فَالْفُتُوَّةُ كُلُّ الْفُتُوَّةِ: أَنْ لَا تُحْوِجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ، بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مِنْكَ عَتَبٌ وَلَا تَغَيُّرٌ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْكَ قَبْلَ مُعَادَاتِهِ. وَلَا تَطْوِيَ عَنْهُ بِشْرَكَ وَلَا بِرَّكَ. وَإِذَا لَمْ تَخْجَلْ أَنْتَ مِنْ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَقَامَ الْمُعْتَذِرِ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِي الْفُتُوَّةِ نَصِيبٌ. وَلَا تَسْتَعْظِمُ هَذَا الْخُلُقَ. فَإِنَّ لِلْفِتْيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَلَا تَسْتَصْعِبُهُ. فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّطَّارِ وَالْعُشَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي حَالِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا فِي لِسَانِهَا نَصِيبٌ، فَأَنْتَ أَيُّهَا الْعَارِفُ أَوْلَى بِهِ. قَالَ: وَفِي عِلْمِ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تُحْوِجْ عَدُوَّكَ إِلَى الْعُذْرِ وَالشَّفَاعَةِ. وَلَمْ تُكَلِّفْهُ طَلَبَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ عُذْرِهِ، فَكَيْفَ تُحْوِجُ وَلِيَّكَ وَحَبِيبَكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ لَكَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا تُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ لَكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا خِلَافَ الْفُتُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَاكَ إِلَى دَارِهِ. فَقَلْتَ لِلرَّسُولِ: لَا آتِي مَعَكَ حَتَّى تُقِيمَ لِيَ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ مَنْ أَرْسَلَكَ، وَأَنَّهُ مُطَاعٌ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ. لَكُنْتَ فِي دَعْوَى الْفُتُوَّةِ زَنِيمًا. فَكَيْفَ بِمَنْ وَجُودُهُ، وَوَحْدَانِيَّتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَرُبُوبِيَّتُهُ، وَإِلَهِيَّتُهُ- أَظْهَرُ مَنْ كُلِّ دَلِيلٍ تَطْلُبُهُ؟ فَمَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ، إِلَّا وَوَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ وَكَمَالُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ. فَإِقْرَارُ الْفِطَرِ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ خَالِقِ الْعَالَمِ: لَمْ يُوقِفْهَا عَلَيْهِ مُوقِفٌ. وَلَمْ تَحْتَجْ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ: طَالِبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْمُرُوءَةِ. الْمُرُوءَةُ فُعُولَةٌ مَنْ لَفَظِ الْمَرْءِ، كَالْفُتُوَّةِ مِنَ الْفَتَى، وَالْإِنْسَانِيَّةُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَلِهَذَا كَانَ حَقِيقَتُهَا: اتِّصَافَ النَّفْسِ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ الَّتِي فَارَقَ بِهَا الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ، وَالشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ. فَإِنَّ فِي النَّفْسِ ثَلَاثَةَ دَوَاعٍ مُتَجَاذِبَةٍ: دَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى الْإِنْصَافِ بِأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِ: مِنَ الْكِبْرِ، وَالْحَسَدِ، وَالْعُلُوِّ، وَالْبَغْيِ، وَالشَّرِّ، وَالْأَذَى، وَالْفَسَادِ، وَالْغِشِّ. وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْحَيَوَانِ. وَهُوَ دَاعِي الشَّهْوَةِ. وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْمَلَكِ: مِنَ الْإِحْسَانِ، وَالنُّصْحِ، وَالْبِرِّ، وَالْعِلْمِ، وَالطَّاعَةِ. فَحَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ: بُغْضُ ذَيْنِكَ الدَّاعِيَيْنِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي الثَّالِثِ. وَقِلَّةُ الْمُرُوءَةِ وَعَدَمُهَا: هُوَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ ذَيْنِكَ الدَّاعِيَيْنِ، وَالتَّوَجُّهُ لِدَعْوَتِهِمَا أَيْنَ كَانَتْ. فَالْإِنْسَانِيَّةُ، وَالْمُرُوءَةُ، وَالْفُتُوَّةُ: كُلُّهَا فِي عِصْيَانِ الدَّاعِيَيْنِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي الثَّالِثِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عُقُولًا بِلَا شَهْوَةٍ. وَخَلَقَ الْبَهَائِمَ شَهْوَةً بِلَا عُقُولٍ. وَخَلَقَ ابْنَ آدَمَ، وَرَكَّبَ فِيهِ الْعَقْلَ وَالشَّهْوَةَ. فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ: الْتَحَقَ بِالْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ: الْتَحَقَ بِالْبَهَائِمِ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمُرُوءَةِ: إِنَّهَا غَلَبَةُ الْعَقْلِ لِلشَّهْوَةِ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّهَا: هِيَ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُ الْعَبْدَ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. وَقِيلَ: الْمُرُوءَةُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ. وَاجْتِنَابُ كُلِّ خُلُقٍ قَبِيحٍ. وَحَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ تَجَنُّبُ الدَّنَايَا وَالرَّذَائِلِ، مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ. فَمُرُوءَةُ اللِّسَانِ: حَلَاوَتُهُ وَطِيبُهُ وَلِينُهُ، وَاجْتِنَاءُ الثِّمَارِ مِنْهُ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ. وَمُرُوءَةُ الْخُلُقِ: سَعَتُهُ وَبَسْطُهُ لِلْحَبِيبِ وَالْبَغِيضِ. وَمُرُوءَةُ الْمَالِ: الْإِصَابَةُ بِبَذْلِهِ مَوَاقِعَهُ الْمَحْمُودَةَ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا. وَمُرُوءَةُ الْجَاهِ: بَذْلُهُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ. وَمُرُوءَةُ الْإِحْسَانِ: تَعْجِيلُهُ وَتَيْسِيرُهُ، وَتَوْفِيرُهُ، وَعَدَمُ رُؤْيَتِهِ حَالَ وُقُوعِهِ، وَنِسْيَانُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ. فَهَذِهِ مُرُوءَةُ الْبَذْلِ. وَأَمَّا مُرُوءَةُ التَّرْكِ: فَتَرْكُ الْخِصَامِ، وَالْمُعَاتَبَةِ، وَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُمَارَاةِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ عَيْبِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ حَقِّكَ. وَتَرْكُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي طَلَبِهِ. وَالتَّغَافُلُ عَنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ، وَإِشْعَارُهُمْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَثْرَةً، وَالتَّوْقِيرُ لِلْكَبِيرِ، وَحِفْظُ حُرْمَةِ النَّظِيرِ، وَرِعَايَةُ أَدَبِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُرُوءَةُ الْمَرْءِ مَعَ نَفْسِهِ، وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَهَا قَسْرًا عَلَى مَا يُجَمِّلُ وَيُزَيِّنُ. وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُ وَيَشِينُ، لِيَصِيرَ لَهَا مَلَكَةٌ فِي الْعَلَانِيَةِ. فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا فِي سِرِّهِ وَخَلْوَتِهِ: مَلَكَهُ فِي جَهْرِهِ وَعَلَانِيَتِهِ. فَلَا يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا يَتَجَشَّأُ بِصَوْتٍ مُزْعِجٍ مَا وَجَدَ إِلَى خِلَافِهِ سَبِيلًا. وَلَا يُخْرِجُ الرِّيحَ بِصَوْتٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يَجْشَعُ وَيَنْهِمُ عِنْدَ أَكْلِهِ وَحْدَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا يَفْعَلُ خَالِيًا مَا يَسْتَحْيِي مِنْ فِعْلِهِ فِي الْمَلَأِ، إِلَّا مَا لَا يَحْظُرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ. وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَلْوَةِ، كَالْجِمَاعِ وَالتَّخَلِّي وَنَحْوِ ذَلِكَ. الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرُوءَةُ مَعَ الْخَلْقِ، بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُمْ شُرُوطَ الْأَدَبِ وَالْحَيَاءِ، وَالْخُلُقِ الْجَمِيلِ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ. وَلِيَتَّخِذَ النَّاسَ مِرْآةً لِنَفْسِهِ. فَكُلُّ مَا كَرِهَهُ وَنَفَرَ عَنْهُ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ خُلُقٍ، فَلْيَتَجَنَّبْهُ. وَمَا أَحَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ فَلْيَفْعَلْهُ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْبَصِيرَةِ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَنْ خَالَطَهُ وَصَاحَبَهُ مِنْ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَسَيِّئِ الْخُلُقِ وَحَسَنِهِ. وَعَدِيمِ الْمُرُوءَةِ وَغَزِيرِهَا. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: يَتَعَلَّمُ الْمُرُوءَةَ، وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِأَضْدَادِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ سَيِّئُ الْخُلُقِ، فَظٌّ غَلِيظٌ، لَا يُنَاسِبُهُ. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَدْرُسُ عَلَيْهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. وَهَذَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي ضِدِّ أَخْلَاقِهِ. وَيَكُونُ بِتَمْرِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ. الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرُوءَةُ مَعَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، بِالِاسْتِحْيَاءِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْكَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفْسٍ، وَإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِكَ جَهْدَ الْإِمْكَانِ. فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْكَ. وَأَنْتَ سَاعٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَتَقَاضِي الثَّمَنِ. وَلَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ: تَسْلِيمُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَتَقَاضِي الثَّمَنِ كَامِلًا. أَوْ رُؤْيَةُ مِنَّتِهِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لَهُ، لَا أَنْتَ. فَيُغْنِيكَ الْحَيَاءُ مِنْهُ عَنْ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ. وَالِاشْتِغَالُ بِإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِكَ عَنِ الْتِفَاتِكَ إِلَى عَيْبِ غَيْرِكَ، وَشُهُودِ الْحَقِيقَةِ عَنْ رُؤْيَةِ فِعْلِكَ وَصَلَاحِكَ. وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي مَنْزِلَةِ الْخُلُقِ وَالْفُتُوَّةِ فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَلِذَلِكَ اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ. وَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ "- رَحِمَهُ اللَّهُ- اسْتَغْنَى بِمَا ذَكَرَ فِي الْفُتُوَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْبَسْطِ، وَالتَّخَلِّي عَنِ الْقَبْضِ. وَهِيَ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ عُنْوَانٌ عَلَى الْحَالِ. وَدَاعِيَةٌ لِمَحَبَّةِ الْخَلْقِ. وَقَدْ غَلِطَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " حَيْثُ صَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى، حَاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ}. وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ: انْبِسَاطًا بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. حَمَلَهُ عَلَى أَنْ قَالَ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ}. وَسَمِعْتُ بَعْضَ الصُّوفِيَّةَ يَقُولُ لِآخَرَ- وَهُمَا فِي الطَّوَافِ- لَمَّا قَالَ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} تَدَارَكَ هَذَا الِانْبِسَاطَ بِالتَّذَلُّلِ بِقَوْلِهِ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أَوْ نَحْوٍ مَنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَكُلُّ هَذَا وَهْمٌ. وَفَهْمٌ خِلَافَ الْمَقْصُودِ. فَالْفِتْنَةُ هَاهُنَا: هِيَ الِامْتِحَانُ. وَالِاخْتِبَارُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ اخْتِبَارٌ مِنْكَ لِعَبْدِكَ، وَامْتِحَانٌ. تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ. وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. فَأَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذَا بِالِانْبِسَاطِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَوْحِيدٌ، وَشُهُودٌ لِلْحِكْمَةِ، وَسُؤَالٌ لِلْعِصْمَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ؟ وَلَيْسَ لِلْعَارِفِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ حَظٌّ مَعَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَلْقِ. وَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": جَعَلَهَا ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: مَعَ النَّاسِ، وَالثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ: مَعَ اللَّهِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي كَلَامِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. قَالَ: الِانْبِسَاطُ: إِرْسَالُ السَّجِيَّةِ، وَالتَّحَاشِي مِنْ وَحْشَةِ الْحِشْمَةِ. السَّجِيَّةُ الطَّبْعُ، وَجَمْعُهَا سَجَايَا، يُقَالُ: سَجِيَّةٌ، وَخَلِيقَةٌ، وَطَبِيعَةٌ، وَغَرِيزَةٌ. وَإِرْسَالُهَا: تَرْكُهَا فِي مَجْرَاهَا. وَالتَّحَاشِي مِنْ وَحْشَةِ الْحِشْمَةِ. التَّحَاشِي: هُوَ تَجَنُّبُ الْوَحْشَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ تُحِبُّهُ وَتَخْدُمُهُ. فَإِنَّ مَرْتَبَتَهُ تَقْتَضِي احْتِشَامَهُ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ، وَإِجْلَالَهُ عَنِ انْبِسَاطِكَ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ نَوْعُ وَحْشَةٍ، فَالِانْبِسَاطُ: إِزَالَةُ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَا تُسْقِطُكَ مِنْ عَيْنِهِ. بَلْ تَزِيدُكَ حُبًّا إِلَيْهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ. قَالَ: وَهُوَ السَّيْرُ مَعَ الْجِبِلَّةِ، أَيِ الْمَشْيُ مَعَ مَا جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَبْدَ مِنَ الْأَخْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الِانْبِسَاطُ مَعَ الْخَلْقِ. وَهُوَ أَنْ تَعْتَزِلَهُمْ، ضَنًّا عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ شُحًّا عَلَى حَظِّكَ. وَتَسْتَرْسِلَ لَهُمْ فِي فَضْلِكَ. وَتَسَعَهُمْ بُخُلُقِكَ، وَتَدَعَهُمْ يَطَؤُونَكَ. وَالْعِلْمُ قَائِمٌ، وَشُهُودُ الْمَعْنَى دَائِمٌ. يُرِيدُ: لَا تَبْخَلْ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِكَ. فَيَحْمِلَكَ ذَلِكَ الْبُخْلُ عَلَى اعْتِزَالِهِمْ. وَتَشِحَّ بِحَظِّكَ فِي الْخَلْوَةِ. وَرَاحَةُ الْعُزْلَةِ: أَنْ تَذْهَبَ بِمُخَالَطَتِهِمْ، بَلْ تَحْمِلُكَ السَّمَاحَةُ وَالْجُودُ وَالْبَذْلُ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لِرَاحَةِ إِخْوَانِكَ بِكَ، وَانْتِفَاعِهِمْ بِمُجَالَسَتِكَ. فَتَتَكَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِحَظِّكَ فِي عُزْلَتِكَ وَخَلْوَتِكَ، وَتُؤْثِرَهُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَهَذَا مِنَ الْفُتُوَّةِ. وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّخَلُّقُ ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهَا. قَوْلُهُ: وَتَسْتَرْسِلَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ. يَعْنِي: إِذَا اسْتَرْسَلْتَ مَعَهُمْ، وَلَمْ تَجْذِبْ عَنْهُمْ عِنَانَكَ: نَالُوا مِنْ فَضْلِكَ. فَيَكُونُ اسْتِرْسَالُكَ سَبَبًا لِنَيْلِهِمْ لِفَضْلِكَ، وَقَبْضُ الْعِنَانِ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ. وَتَسَعُهُمْ بِخُلُقِكَ بِاحْتِمَالِ مَا يَبْدُو مِنْهُمْ مَنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ، فَخُذْ مِنْهُمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَهُوَ الْعَفْوُ. وَتَدَعَهُمْ يَطَؤُونَكَ أَيْ يَدُوسُونَكَ مِنْ لِينِكَ وَتَوَاضُعِكَ، وَخَفْضِ جَنَاحِكَ، بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُ لِنَفْسِكَ بَيْنَهُمْ رُتْبَةً تَتَقَاضَاهُمْ أَنْ يَحْتَرِمُوكَ لِأَجْلِهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: وَالْعِلْمُ قَائِمٌ. وَشُهُودُ الْمَعْنَى دَائِمٌ. أَمَّا قِيَامُ الْعِلْمِ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِرْسَالُ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ, غَيْرَ مُخْرِجٍ عَنْ حُدُودِهِ وَآدَابِهِ، بِحَيْثُ لَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ، وَتَضْيِيعِ حَقِّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَأَمَّا دَوَامُ شُهُودِ الْمَعْنَى فَهُوَ حِفْظُ حَالِكَ وَقَلْبِكَ مَعَ اللَّهِ، وَدَوَامُ إِقْبَالِكَ عَلَيْهِ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ. فَأَنْتَ مَعَهُمْ مُسْتَرْسِلٌ بِشَبَحِكَ وَرَسْمِكَ وَصُورَتِكَ فَقَطْ. وَمُفَارَقَتِهِمْ بِقَلْبِكَ وَسِرِّكَ، مُشَاهِدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي بِهِ حَيَاتُكَ. فَإِذَا فَارَقْتَهُ كُنْتَ كَالْحُوتِ إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ. فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَإِذَا فَاتَ الْعَبْدَ عَلَتْهُ الْكَآبَةُ، وَغَمَرَهُ الْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْأَحْزَانُ، وَتَلَوَّنَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. وَتَاهَ قَلْبُهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ. وَفَقَدَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى الصَّرْصَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا صَارَ قَلْبُ الْعَبْدِ لِلسِّرِّ مَعْدِنًا *** تَلُوحُ عَلَى أَعْطَافِهِ بَهْجَةُ السَّـنَا وَإِنْ فَاتَهُ الْمَعْنَى عَلَتْهُ كَــآبَـةٌ *** فَأَصْبَـحَ فِي أَفْعَالِهِ مُتَلَــوِّنَا فَمَتَى كَانَ شُهُودُ هَذَا الْمَعْنَى قَائِمًا فِي قَلْبِكَ: لَا يَضُرُّكَ مُخَالَطَةُ مَنْ لَا تَسْلُبُكَ إِيَّاهُ مُخَالَطَتُهُ وَالِانْبِسَاطُ إِلَيْهِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْبِسَاطُ مَعَ الْحَقِّ. وَهُوَ أَنْ لَا يَحْبِسَكَ خَوْفٌ، وَلَا يَحْجُبَكَ رَجَاءٌ. وَلَا يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ. يُرِيدُ: أَنْ لَا يَمْنَعَكَ عَنْ الِانْبِسَاطِ إِلَيْهِ خَوْفٌ. فَإِنَّ مَقَامَ الْخَوْفِ لَا يُجَامِعُ مَقَامَ الِانْبِسَاطِ. وَالْخَوْفُ مِنْ أَحْكَامِ اسْمِ الْقَابِضِ وَالِانْبِسَاطُ مِنْ أَحْكَامِ اسْمِ الْبَاسِطِ. وَالْبَسْطُ عِنْدَهُمْ: مِنْ مُشَاهَدَةِ أَوْصَافِ الْجِمَالِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّوَدُّدِ وَالرَّحْمَةِ. وَالْقَبْضُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَدْلِ وَالِانْتِقَامِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْخَوْفَ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ. وَالِانْبِسَاطُ مِنْ مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ. إِذِ الِانْبِسَاطُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْعَارِفِينَ أَرْبَابِ التَّجَلِّيَاتِ. وَلَيْسَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ خَوْفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَحْجُبَكَ رَجَاءٌ؛ فَلِأَنَّ الرَّاجِيَ لِطَلَبِهِ حَاجَتُهُ تَحْتَاجُ إِلَى التَّمَلُّقِ وَالتَّذَلُّلِ. فَيَحْجُبُهُ رَجَاؤُهُ وَطَمَعُهُ فِيمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمُعَظَّمِ عَنِ انْبِسَاطِهِ. كَالسَّائِلِ لِلْغَنِيِّ. فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَطَمَعَهُ يَمْنَعُهُ مِنِ انْبِسَاطِهِ إِلَيْهِ. فَإِذَا غَابَ عَنْ ذَلِكَ انْبَسَطَ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ. اسْتِعَارَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَرَاهُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَأَرْحَمَ بِكَ مِنْهُمَا، وَأَشْفَقَ عَلَيْكَ. فَلَا تُوَسِّطُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَبًا خَرَجْتَ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا أُمًّا رَكَضْتَ فِي رَحِمِهَا. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّكَ تُشَاهِدُ خَلْقَهُ لَكَ بِلَا وَاسِطَةٍ. كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. فَتُشَاهِدُ خَلْقَهُ لَكَ بِيَدِهِ، وَنَفْخَهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ. وَإِسْجَادَ مَلَائِكَتَهُ لَكَ. وَإِبْعَادَ إِبْلِيسَ حَيْثُ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ. وَأَنْتَ فِي صُلْبِ أَبِيكَ آدَمَ. وَهَذَا يُوجِبُ لَكَ شُهُودَ الِانْطِوَاءِ عَنْ الِانْبِسَاطِ. وَهُوَ رَحْبُ الْهِمَّةِ لِانْطِوَاءِ انْبِسَاطِ الْعَبْدِ فِي بَسْطِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ لَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ انْبِسَاطًا وَلَا انْقِبَاضًا. بَلْ يَنْطَوِي انْبِسَاطُهُ وَيَضْمَحِلُّ فِي صِفَةِ الْبَسْطِ الَّتِي لِلْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَهَذَا شُهُودُ مَعْنَى اسْمِ الْبَاسِطِ عَزَّ وَجَلَّ. فَهَذَا تَقْدِيرُ كَلَامِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مَقْبُولًا وَمَرْدُودًا. وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهَا بِالْخَلْقِ: فَصَحِيحٌ. نَعَمْ هَاهُنَا مَقَامُ اشْتِبَاهٍ وَفَرْقٍ. وَهُوَ أَنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ: لَا بُدَّ أَنْ يُقَارِنَهُ أَحْيَانًا فَرَحٌ بِمَحْبُوبِهِ. وَيَشْتَدَّ فَرَحُهُ بِهِ. وَيَرَى مَوَاقِعَ لُطْفِهِ بِهِ، وَبِرِّهِ بِهِ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ وَحُسْنَ دِفَاعِهِ عَنْهُ، وَالتَّلَطُّفَ فِي إِيصَالِهِ الْمَنَافِعَ وَالْمَسَارَّ وَالْمَبَارَّ إِلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَدَفْعَ الْمَضَارِّ وَالْمَكَارِهِ عَنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَكُلَّمَا فَتَّشَ عَنْ ذَلِكَ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى أُمُورٍ عَجِيبَةٍ. لَا يَقِفُ وَهْمُهُ وَمُقْتَبَسُهُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ. بَلْ مَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ. فَيُدَاخِلُهُ مِنْ شُهُودِ هَذِهِ الْحَالَةِ نَوْعُ إِدْلَالٍ وَانْبِسَاطٍ. وَشُهُودُ نَفْسِهِ فِي مَنْزِلَةِ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ. وَلَا يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِ ذَلِكَ إِلَّا خَوَاصُّ الْعَارِفِينَ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ نِهَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَمَا يَبْدُو مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ بِالشَّطَحَاتِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِأَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ فِي مَنْزِلَةِ الْقُرْبِ وَالْكَرَامَةِ وَالْحُظْوَةِ وَالْجَاهِ مَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَانَ أَشَدَّ الْخَلْقِ لِلَّهِ خَشْيَةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا. وَحَالُهُ كُلُّهَا مَعَ اللَّهِ تَشْهَدُ بِتَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَيْنَ دَرَجَةُ الِانْبِسَاطِ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنَ التُّرَابِ، إِلَى الِانْبِسَاطِ مَعَ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ نَعَمْ لَا يُنْكِرُ فَرَحَ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَسُرُورَهُ بِهِ، وَابْتِهَاجَهُ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ، وَنَعِيمَهُ بِحُبِّهِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِهِ: إِلَّا كَثِيفُ الْحِجَابِ، حَجَرِيُّ الطِّبَاعِ. فَلَا بِهَذَا الْمَيَعَانِ. وَلَا بِذَاكَ الْجُمُودِ وَالْقَسْوَةِ. وَبِهَذَا وَمِثْلِهِ طَرَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْقَوْمِ السَّبِيلَ إِلَيْهِمْ. وَفَتَحُوا لِلْمَقَالَةِ فِيهِمْ بَابًا، فَالْعَبْدُ الْخَائِفُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ الذَّلِيلُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُنَكَّسُ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، الَّذِي لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ: هُوَ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَى عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ فِي نِعْمَتِهِ إِلَّا طُفَيْلِيًّا. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ مُحْسِنًا قَطُّ. وَإِنْ صَدَرَ مِنْهُ إِحْسَانٌ: عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا بِهَا وَلَا فِيهَا. وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَصَدَقَتُهُ عَلَيْهِ. فَمَا لِهَذَا وَالِانْبِسَاطِ؟ نَعَمِ انْبِسَاطُهُ انْبِسَاطُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَرِضًا وَابْتِهَاجٍ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِانْبِسَاطِ هَذَا: فَلَا نُنْكِرُهُ. لَكِنَّهُ غَيْرَ الِاسْتِرْسَالِ الْمَذْكُورِ، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ يُبَيِّنُ مُرَادَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْعَزْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: عَزْمُ الْمُرِيدِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ. وَهُوَ بِدَايَةٌ. وَالثَّانِي: عَـزْمُ السَّـالِكِ. وَهُوَ مَقَامٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " فِي وَسَطِ كِتَابِهِ فِي قِسْمِ الْأُصُولِ فَقَالَ: هُوَ تَحْقِيقُ الْقَصْدِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. أَمَّا قَوْلُهُ: تَحْقِيقُ الْقَصْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ مُحَقَّقًا. لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرَدُّدِ. وَأَمَّا تَقْسِيمُهُ هَذَا التَّحْقِيقَ إِلَى طَوْعٍ وَكَرْهٍ: فَصَحِيحٌ. فَإِنَّ الْمُخْتَارَ: تَحْقِيقُ قَصْدِهِ طَوْعًا. وَأَمَّا الْمُكْرَهُ: فَتَحْقِيقُ قَصْدِهِ كَرْهًا. فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلٍ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ: قَدْ حَقَّقَ قَصْدَهُ كَرْهًا لَا طَوْعًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي الْمُكْرَهِ: هَلْ يُسَمَّى مُخْتَارًا، أَمْ لَا؟. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ. فَلَهُ اخْتِيَارٌ فِي الْفِعْلِ. وَبِهِ صَحَّ وُقُوعُهُ. فَإِنَّهُ لَوْلَا إِرَادَتُهُ وَاخْتِيَارُهُ: لَمَا وَقَعَ الْفِعْلُ. وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ لَيْسَتْ مِنْ قِبَلِهِ. فَهُوَ مُخْتَارٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ مِنْهُ. وَغَيْرُ مُخْتَارٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ. وَلَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا مِنْ نَفْسِهِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِبَاءُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَمَعْنَاهُ لِشَيْمِ بَرْقِ الْكَشْفِ، وَاسْتِدَامَةِ نُورِ الْأُنْسِ، وَالْإِجَابَةِ لِإِمَاتَةِ الْهَوَى. يُرِيدُ بِـ " إِبَاءِ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ ": اسْتِعْصَاؤَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ: تَأْبَى عَلَيْهِ حَالُهُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ إِلَى دَرَجَةِ الْعِلْمِ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّ الصُّعُوبَةِ. وَهُوَ انْحِطَاطٌ فِي رُتْبَتِهِ. وَلَا يُرِيدُ امْتِنَاعَ الْحَالِ عَنْ طَاعَةِ الْعِلْمِ وَتَحْكِيمِهِ. فَإِنَّ هَذَا انْحِلَالٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الطَّرِيقِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَكُلُّ حَالٍ لَا يُطِيعُ الْعِلْمَ وَلَا يُحَكِّمَهُ فَهُوَ حَالٌ فَاسِدٌ، مُبْعِدٌ عَنِ اللَّهِ. لَكِنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَالِ الْعِلْمِ يَحْجُبُهُ حَالُهُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى دَرَجَةِ الْعِلْمِ. وَيَنْحَطَّ إِلَيْهَا بِلَا حَالٍ. فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ هَذَا الْمَعْنَى: فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: امْتِنَاعَ الْحَالِ عَنْ طَاعَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَدْعُو إِلَى أَحْكَامِ الْغَيْبَةِ وَالْحِجَابِ. وَالْحَالَ يَدْعُو إِلَى أُنْسِ الْكَشْفِ وَالْحُضُورِ. فَصَاحِبُ الْحَالِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ- فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْحَالِ تَسْتَحِيلُ مَعْرِفَةُ صِحَّتِهِ بِدُونِهِ. نَعَمْ لَا يُنْكَرُ حُصُولُهُ بِدُونِ الْعِلْمِ. لَكِنَّ صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا وُثُوقٍ بِهِ. وَشَيْمُ بَرْقِ الْكَشْفِ، هُوَ النَّظَرُ إِلَيْهِ عَلَى بُعْدٍ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ: عَامِلٌ عَلَى شَيْمِ بِرْقِ الْكَشْفِ. لِأَنَّ شَيْمَ بَرْقِ الْكَشْفِ: يُوجِبُ نُورًا يَأْنَسُ بِهِ الْقَلْبُ. فَعَزِيمَةُ صَاحِبِهِ: عَلَى اسْتَدَامَتِهِ وَحِفْظِهِ. وَأَمَّا الْإِجَابَةُ لِإِمَاتَةِ الْهَوَى. فَهُوَ أَنَّ السَّالِكَ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْكَشْفِ: أَحَسَّ بِحَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْمَوْتِ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ. وَيَظُنُّ ذَلِكَ مَوْتًا. وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ مَبَادِئِ الْفَنَاءِ فَتَهْوَى نَفْسُهُ الْعَوْدَ إِلَى الْحِجَابِ، خَوْفًا مِنْ الِانْعِدَامِ، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ. فَإِذَا حَصَلَ الْعَزْمُ أُمِيتَ هَذَا الْهَوَى، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، رَغْبَةً فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْفَنَاءِ فِي الْفَرْدَانِيَّةِ. فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَبْدَأُ إِلَّا بَعْدَ فَنَاءِ الْبَشَرِيَّةِ. هَذَا الَّذِي قَالَهُ حَقٌّ. لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يَذُقْهُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَأَنَّهُ غَايَةٌ أَوْ تَوَسُّطٌ أَوْ لَازَمٌ، أَوْ عَارِضٌ؟. فَشَيْخُنَا- رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَ يَرَى أَنَّهُ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ لَا يَعْرِضُ لِلْكُّلِ. وَمِنَ السَّالِكِينَ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَلْبَتَّةَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ لَازِمًا لِلطَّرِيقِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ غَايَةً لَا شَيْءَ فَوْقَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ تَوَسُّطًا. وَفَوْقَهُ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَرْفَعُ. وَهُوَ حَالَةُ الْبَقَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي لَوَائِحِ الْمُشَاهَدَةِ. وَاسْتِنَارَةُ ضِيَاءِ الطَّرِيقِ وَاسْتِجْمَاعُ قُوَى الِاسْتِقَامَةِ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: فِقْدَانُ الْإِحْسَاسِ بِغَيْرِهِ. لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مُشَاهَدَتِهِ. الثَّانِي: اسْتِنَارَةُ ضِيَاءِ الطَّرِيقِ. يَعْنِي ظُهُورَ الْجَادَّةِ لَهُ وَوُضُوحَهَا. وَاتِّصَالَهَا بِمَطْلُوبِهِ. وَهَذَا كَمَنْ هُوَ سَائِرٌ إِلَى مَدِينَةٍ. فَإِذَا شَارَفَهَا وَرَآهَا: رَأَى الطَّرِيقَ حِينَئِذٍ وَاضِحَةً إِلَيْهَا، وَاسْتَنَارَ لَهُ ضِيَاؤُهَا وَاتِّصَالُهَا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ الْمَدِينَةِ عَلَى عِلْمٍ- أَوْ ظَنٍّ- يَجُوزُ مَعَهُ أَنْ يَضِيعَ عَنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا الْآنَ: فَقَدْ أَمِنَ مِنْ أَنْ يَضِيعَ عَنِ الْبَابِ. وَكَذَلِكَ هَذَا السَّالِكُ: قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمَوَانِعُ، وَاسْتَبَانَ لَهُ الطَّرِيقُ. وَأَيْقَنَ بِالْوُصُولِ. وَصَارَتْ حَالُهُ حَالَ مُعَايِنِ بَابِ الْمَدِينَةِ مِنْ حِينِ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهِ. وَكَحَالِ مُعَايِنِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ قُرْبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، حَيْثُ تَيَقَّنَ أَنَّ الشَّمْسَ بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: وَاسْتِجْمَاعُ قُوَى الِاسْتِقَامَةِ. يَعْنِي: تُسْتَجْمَعُ لَهُ قُوَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى قَصْدِ الْوُصُولِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ، لِمُشَاهَدَتِهِ مَا هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهِ. وَهَكَذَا عَادَةُ الْمُسَافِرِ: أَنَّهُ إِذَا عَايَنَ الْقَرْيَةَ الَّتِي يُرِيدُ دُخُولَهَا أَسْرَعَ السَّيْرَ، وَبَذَلَ الْجُهْدَ. وَكَذَلِكَ الْمُسَابِقُ إِذَا عَايَنَ الْغَايَةَ: اسْتَفْرَغَ قُوَى جَرْيِهِ وَسَوْقِهِ. وَكَذَلِكَ الصَّادِقُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ: أَقْوَى عَزْمًا وَقَصْدًا مِنْ أَوَّلِهِ، لِقُرْبِهِ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي يَجْرِي إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ الْعَزْمِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ. ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ تَكَالِيفِ تَرْكِ الْعَزْمِ. فَإِنَّ الْعَزَائِمَ لَمْ تُوَرِّثْ أَرْبَابَهَا مِيرَاثًا أَكْرَمَ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى عِلَلِ الْعَزَائِمِ. مَعْرِفَةُ عِلَّةِ الْعَزْمِ هِيَ نِسْبَتُهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الْعَزْمَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَإِيثَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ: فَنِسْبَتُهُ إِيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ عِلَّةٌ قَادِحَةٌ فِيهِ. فَإِذَا لَاحَ لَهُ لَائِحُ الْكَشْفِ. وَشَهِدَ تَوْحِيدَ الْفَضْلِ، عَلِمَ حِينَئِذٍ عِلَّةَ عَزْمِهِ. وَهُوَ نِسْبَتُهُ إِيَّاهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَرُؤْيَتُهُ لَهُ. فَإِذَا عَرَفَ هَذِهِ الْعِلَّةَ عَزَمَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِالْعَزْمِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ. وَهَذَا قَدْ يَسْبِقُ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ تُنَاقُضٌ وَتَدَافُعٌ. فَكَيْفَ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْعَزْمِ بِالْعَزْمِ؟. وَمُرَادُهُ: أَنْ يَعْزِمَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ بِالْعَزْمِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَمَوْهِبَتِهِ. وَلَا تَنَاقُضَ حِينَئِذٍ. فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْعَزْمِ بِالْعَزْمِ، كَمَا يُنَازَعُ الْقَدَرُ بِالْقَدَرِ. وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنْ تَرْكِ تَكَالِيفِ الْعَزْمِ. فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا تَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الْعَزْمِ وَتَرَكَهُ: بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ. وَهِيَ رُؤْيَتُهُ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ. فَعَلَيْهِ التَّخَلُّصُ مِنْ رُؤْيَةِ هَذَا التَّرْكِ. فَهُوَ يَطْلُبُ الْآنَ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ تَرْكِ الْعَزْمِ. كَمَا كَانَ يَطْلُبُ تَرْكَ الْعَزْمِ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْعَزَائِمَ لَمْ تُوَرِّثْ أَرْبَابَهَا مِيرَاثًا أَكْرَمَ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى عِلَلِ الْعَزَائِمِ. مَدَارُ عِلَلِ الْعَزَائِمِ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: فُتُورُهَا وَضَعْفُهَا. الثَّانِي: عَدَمُ تَجَرُّدِهَا مِنَ الْأَغْرَاضِ وَشَوَائِبِ الْحُظُوظِ. الثَّالِثُ: رُؤْيَةُ الْعَزَائِمِ وَشُهُودُهَا، وَنِسْبَتُهَا إِلَى أَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا عَرَفَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ: عَرَفَ عِلَلَ الْعَزَائِمِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}. وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِاللَّهِ. وَكُونُ وَجْهِهِ تَعَالَى مُرَادًا. قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْحَادِثِ. وَأَمَّا بِالْقَدِيمِ: فَلَا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُرَادُ. وَأَوَّلُوا الْإِرَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ بِإِرَادَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ. فَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِجَزَائِهِ. هَذَا حَاصِلُ مَا عِنْدَهُمْ. وَحِجَابُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ غَلِيظٌ كَثِيفٌ مِنْ أَغْلَظِ الْحُجْبِ وَأَكْثَفِهَا. وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ أَهْلَ قَسْوَةٍ. وَلَا تُجِدُ عَلَيْهِمْ رُوحَ السُّلُوكِ، وَلَا بَهْجَةَ الْمَحَبَّةِ. وَالطَّلَبُ وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ: هِيَ التَّجَرُّدُ عَنِ الْإِرَادَةِ. فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْإِرَادَةُ إِلَّا لِمَنْ لَا إِرَادَةَ لَهُ. وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ. بَلْ هُوَ مَحْضُ الْحَقِّ. وَاتِّفَاقُ كَلِمَةِ الْقَوْمِ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ الْقَوْمِ عَنْهَا. وَغَالِبُهُمْ يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَرْكُ الْعَادَةِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ عَادَةَ النَّاسِ غَالِبًا التَّعْرِيجُ عَلَى أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الشَّهْوَةِ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى أَرْضِ الطَّبِيعَةِ. وَالْمُرِيدُ مُنْسَلِخٌ عَنْ ذَلِكَ. فَصَارَ خُرُوجُهُ عَنْهُ: أَمَارَةً وَدَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْإِرَادَةِ. فَسُمِّيَ انْسِلَاخُهُ وَتَرْكُهُ إِرَادَةً. وَقِيلَ: نُهُوضُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. وَيُقَالُ: لَوْعَةٌ تُهَوِّنُ كُلَّ رَوْعَةٍ. قَالَ الدَّقَّاقُ: الْإِرَادَةُ لَوْعَةٌ فِي الْفُؤَادِ، لَذْعَةٌ فِي الْقَلْبِ، غَرَامٌ فِي الضَّمِيرِ، انْزِعَاجٌ فِي الْبَاطِنِ، نِيرَانٌ تَأَجَّجُ فِي الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: مِنْ صِفَاتِ الْمُرِيدِ: التَّحَبُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي نَصِيحَةِ الْأُمَّةِ، وَالْأُنْسُ بِالْخَلْوَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْأَحْكَامِ، وَالْإِيثَارُ لِأَمْرِهِ، وَالْحَيَاءُ مِنْ نَظَرِهِ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي مَحْبُوبِهِ. وَالتَّعَرُّضُ لِكُلِّ سَبَبٍ يُوصِّلُ إِلَيْهِ. وَالْقَنَاعَةُ بِالْخُمُولِ. وَعَدَمُ قَرَارِ الْقَلْبِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى وَلِيِّهِ وَمَعْبُودِهِ. وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: إِذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُرِيدُ غَيْرَ مُرَادِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ نَذَالَتَهُ. وَقِيلَ: مِنْ حُكْمِ الْمُرِيدِ: أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ غَلَبَةً، وَأَكْلُهُ فَاقَةً، وَكَلَامُهُ ضَرُورَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِهَايَةُ الْإِرَادَةِ: أَنْ تُشِيرَ إِلَى اللَّهِ. فَتَجِدَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ. فَقِيلَ لَهُ: وَأَيْنَ تَسْتَوْعِبُهُ الْإِشَارَةُ؟ فَقَالَ: أَنْ تَجِدَ اللَّهَ بِلَا إِشَارَةٍ. وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ. فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ: أَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ لَهُ عَلَى الْإِشَارَةِ مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَلَكَةٌ وَحَالٌ وَإِرَادَةٌ تَامَّةٌ، بِحَيْثُ إِنَّهُ مَتَى أُشِيرَ لَهُ إِلَى اللَّهِ وَجَدَهُ عِنْدَ إِشَارَةِ الْمُشِيرِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَيَتَكَلَّفَ وِجْدَانُهُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقَيْنَ. وَالْوُسْطَى: لِلْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَالثَّالِثَةُ: لِلْغَافِلِينَ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ: مَنْ لَمْ تَصِحَّ إِرَادَتُهُ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ مُرُورُ الْأَيَّامِ عَلَيْهِ إِلَّا إِدْبَارًا. وَقَالَ: الْمُرِيدُ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الْقَوْمِ فَعَمِلَ بِهِ: صَارَ حِكْمَةً فِي قَلْبِهِ إِلَى آخَرِ عُمْرِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ. وَإِذَا تَكَلَّمَ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ. وَمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِهِمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حِكَايَةً يَحْفَظُهَا أَيْامًا ثُمَّ يَنْسَاهَا. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: أَوَّلُ مَقَامِ الْمُرِيدِ: إِرَادَةُ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ إِرَادَتِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الْمُرِيدِ: مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ. وَسُئِلَ الْجُنَيْـدُ: مَا لِلْمُرِيدِ حَظٌّ فِي مَجَازَاتِ الْحِكَايَاتِ؟ فَقَالَ: الْحِكَايَاتُ جُنْدٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ بِهَا قُلُوبَ الْمُرِيدِينَ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْجُنَيْدِ كَلِمَتَانِ فِي الْإِرَادَةِ مُجْمَلَتَانِ. تَحْتَاجُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى تَفْسِيرٍ. الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَخْلَدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: الْمُرِيدُ الصَّادِقُ غَنِيٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا: أَوْقَعَهُ إِلَى الصُّوفِيَّةِ. وَمَنَعَهُ صُحْبَةَ الْقُرَّاءِ. قُلْتُ: إِذَا صَدَقَ الْمُرِيدُ، وَصَحَّ عَقْدُ صِدْقِهِ مَعَ اللَّهِ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِبَرَكَةِ الصِّدْقِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّهِ: مَا يُغْنِيهِ عَنِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ نَتَائِجُ أَفْكَارِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ. وَعَنِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ لَيْسَتْ مِنْ زَادِ الْقَبْرِ. وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ إِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَعُلُومِهِمْ، الَّتِي أَفْنَوْا فِيهَا أَعْمَارَهُمْ: مِنْ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ وَآفَاتِهَا وَعُيُوبِهَا، وَمَعْرِفَةِ مُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ، وَأَحْكَامِ السُّلُوكِ. فَإِنَّ حَالَ صِدْقِهِ، وَصِحَّةَ طَلَبِهِ: يُرِيهِ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْفِعْلِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ قَاعِدٌ فِي الْبَلَدِ يَدْأَبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فِي عِلْمِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَعَقَبَاتِهَا وَأَوْدِيَتِهَا، وَمَوَاضِعِ الْمَتَاهَاتِ فِيهَا، وَالْمَوَارِدِ وَالْمَفَاوِزِ. وَآخَرُ: حَمَلَهُ الْوَجْدُ وَصِدْقُ الْإِرَادَةِ عَلَى أَنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ وَسَارَ فِيهَا. فَصِدْقُهُ يُغْنِيهِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ الْقَاعِدِ، وَيُرِيهِ إِيَّاهَا فِي سُلُوكِهِ عَيَانًا. وَأَمَّا أَنْ يُغْنِيَهُ صِدْقُ إِرَادَتِهِ عَنْ عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِبَادَاتِ وَشُرُوطِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُبْطِلَاتِهَا، وَعَنْ عِلْمِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ: فَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَ الْجُنَيْدِ مِنْ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَزَنَادِقَةُ الصُّوفِيَّةِ وَمَلَاحِدَتُهُمْ، الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ شَرْطًا فِي الطَّرِيقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ: يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَيُنَوِّرُهُ بِنُورٍ مِنْ عِنْدِهِ، مُضَافٌ إِلَى مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ، يَعْرِفُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ دِينِهِ. فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ. وَقَلَبَ الصَّادِقِ مُمْتَلِئٌ بِنُورِ الصِّدْقِ. وَمَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ. وَالنُّورُ يَهْدِي إِلَى النُّورِ. وَ الْجُنَيْدُ أَخْبَرَ بِهَذَا عَنْ حَالِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ جُزْئِيٌّ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ صِدْقَهُ يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَمَّا عَنْ جُمْلَةِ الْعِلْمِ: فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي ضَرُورَةِ الصَّادِقِ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ، وَأَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَمَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى طَرَفًا مِنْهُ. كَقَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ. لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عِلْمَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ: هُوَ مَا فَهِمُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمُرِيدُ الصَّادِقُ: هُوَ الَّذِي قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَ السُّنَّةَ، وَاللَّهَ يَرْزُقُهُ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ وَنُورِ قَلْبِهِ فَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ يُغْنِيهِ عَنْ تَقْلِيدِ فَهْمِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ- يَعْنِي الْجُنَيْدَ- إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا: أَوْقَعَهُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ. وَمَنَعَهُ صُحْبَةَ الْقُرَّاءِ. فَالْقُرَّاءُ فِي لِسَانِهِمْ: هُمْ أَهْلُ التَّنَسُّكِ وَالتَّعَبُّدِ، سَوَاءٌ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَمْ لَا، فَالْقَارِئُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْكَثِيرُ التَّعَبُّدِ وَالتَّنَسُّكِ، الَّذِي قَدْ قَصَرَ هِمَّتُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَادَةِ، دُونَ أَرْوَاحِ الْمَعَارِفِ. وَدُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَرُوحِ الْمَحَبَّةِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَهِمَّتُهُمْ كُلُّهَا إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلَا خَبَرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: طَرِيقُنَا تَفَتٍّ لَا تَقَسُّرٌ. فَسَيْرُ هَؤُلَاءِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَسَيْرُ أُولَئِكَ: بِمُجَرَّدِ الْقَوَالِبِ وَالْأَشْبَاحِ، وَبَيْنَ أَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِهِمْ: نَوْعُ تَنَاكُرٍ وَتَنَافُرٍ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى صُحْبَةِ النَّوْعِ الْآخَرِ إِلَّا عَلَى نَوْعِ إِغْضَاءٍ، وَتَحْمِيلٍ لِلطَّبِيعَةِ مَا تَأْبَاهُ. وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ظَاهِرِيَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّنَافُرِ. وَيُسَمُّونَهُمْ: أَصْحَابَ الرُّسُومِ. وَيُسَمُّونَ أُولَئِكَ: الْقُرَّاءَ. وَالطَّائِفَتَانِ عِنْدَهُمْ: أَهْلُ ظَوَاهِرٍ، لَا أَرْبَابُ حَقَائِقَ. هَؤُلَاءِ مَعَ رُسُومِ الْعِلْمِ. وَهَؤُلَاءِ مَعَ رُسُومِ الْعِبَادَةِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ- فِي أَنْفُسِهِمْ- فَرِيقَانِ: صُوفِيَّةٌ وَفُقَرَاءُ. وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي تَرْجِيحِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ. عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ الصُّوفِيَّ. مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ الْعَوَارِفِ، وَجَعَلُوا نِهَايَةَ الْفَقِيرِ: بِدَايَةَ الصُّوفِيِّ. وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ الْفَقِيرَ. وَجَعَلُوا الْفَقْرَ لُبَّ التَّصَوُّفِ وَثَمَرَتُهُ، وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ. وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قَالُوا: الْفَقْرُ وَالتَّصَوُّفُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. وَلَا يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ حَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ. وَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ: هَلْ هَمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ حَقِيقَتَانِ؟ وَيُعْلَمُ رَاجِحُهُمَا مِنْ مَرْجُوحِهِمَا. وَسَتَرَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَنْزِلَتَيِ الْفَقْرِ، وَالتَّصَوُّفِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِمَا. إِنْ سَاعَدَ اللَّهُ وَمَنَّ بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ. فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَمَا شَاءَ كَانَ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمَرَاتِبَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةٌ: مَرْتَبَةُ التَّقْوَى وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّعَبُّدِ وَالتَّنَسُّكِ. وَمُرَتَّبَةُ التَّصَوُّفِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّفَتِّي بِكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ. وَالْخُرُوجِ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ. وَمَرْتَبَةُ الْفَقْرِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّجَرُّدِ، وَقَطْعُ كُلُّ عَلَاقَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذِهِ مَرَاتِبُ طُلَّابِ الْآخِرَةِ. وَمَنْ عَدَاهُمْ: فَمَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ. فَأَشَارَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ إِلَى أَنَّ الْمُرِيدَ لِلَّهِ بِصِدْقٍ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: أَوْقَعَهُ عَلَى طَائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ، يُهَذِّبُونَ أَخْلَاقَهُ. وَيَدُلُّونَهُ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَإِزَالَةِ أَخْلَاقِهَا الذَّمِيمَةِ. وَالِاسْتِبْدَالِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ. وَيُعِرِّفُونَهُ مَنَازِلَ الطَّرِيقِ وَمَفَازَاتِهَا، وَقَوَاطِعَهَا وَآفَاتِهَا. وَأَمَّا الْقُرَّاءُ: فَيَدُقُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ دَقًّا. وَلَا يُذِيقُونَهُ شَيْئًا مِنْ حَلَاوَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ. إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقُهُمْ. وَلِهَذَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَرْبَابِ التَّصَوُّفِ نَوْعُ تَنَافَرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبَصِيرُ الصَّادِقُ: يَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ بِسَهْمٍ، وَيُعَاشِرُ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى أَحْسَنِ مَا مَعَهَا. وَلَا يَتَحَيَّزُ إِلَى طَائِفَةٍ. وَيَنْأَى عَنِ الْأُخْرَى بِالْكُلِّيَّةِ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّادِقِينَ. وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ كَامِنَةٌ فِي النُّفُوسِ. وَلَا أَعْنِي بِذَلِكَ أَصْغَرَيْهِمْ *** وَلَكِنِّي أُرِيدُ بِهِ الدُّوَيْنَا سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَائِلًا يَقُولُ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَآخَرٌ يَقُولُ: يَا لَلْأَنْصَارِ! فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟. هَذَا، وَهُمَا اسْمَانِ شَرِيفَانِ. سَمَّاهُمُ اللَّهُ بِهِمَا فِي كِتَابِهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَدَاعُوا بِـ " الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ " وَهِيَ الدَّعْوَى الْجَامِعَةُ. بِخِلَافِ الْمُفَرَّقَةِ. كَـ " الْفُلَانِيَّةِ وَالْفُلَانِيَّةِ " فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. فَقَالَ: عَلَى كِبَرِ السِّنِّ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ؟ وَلَا يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَطَعْمَ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ قَلْبِهِ. وَاللَّهِ لَوْ تَحَقَّقَ النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِ رَجُلٍ لَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالُوا: هَذَا مُبْتَدِعٌ، وَمِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ. فَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى. وَهُوَ الْمَسْئُولُ الصَّبْرَ، وَالثَّبَاتَ. فَلَا بُدَّ مِنْ لِقَائِهِ {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ الْإِرَادَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}. فِي تَصْدِيرِهِ الْبَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِ. وَجَلَالَةِ مَحِلِّهِ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ. فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى كُلِّ مَا يُشَاكِلُهُ، وَيُنَاسِبُهُ، وَيَلِيقُ بِهِ. فَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَمُرِيدُ الدُّنْيَا وَجِيفَتِهَا عَامِلٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ. وَمُحِبُّ الصُّوَرِ: عَامِلٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَيَلِيقُ بِهِ. فَكُلُّ امْرِئٍ يَهْفُو إِلَى مَا يُحِبُّهُ *** وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ فَالْمُرِيدُ الصَّادِقُ الْمُحِبُّ لِلَّهِ: يَعْمَلُ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ وَالْمُنَاسِبُ لَهُ. فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَةِ إِرَادَتِهِ. وَمَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِهِ، وَالْأَنْسَبُ لَهَا. قَالَ: الْإِرَادَةُ مِنْ قَوَانِينِ هَذَا الْعِلْمِ، وَجَوَامِعِ أَبْنِيَتِهِ. وَهِيَ الْإِجَابَةُ لِدَوَاعِي الْحَقِيقَةِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِرَادَةِ. فَهِيَ أَسَاسُهُ، وَمَجْمَعُ بِنَائِهِ. وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْإِرَادَةِ. وَهِيَ حَرَكَةُ الْقَلْبِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ عِلْمَ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْجَوَارِحِ. وَلِهَذَا سَمَّوْهُ عِلْمَ الظَّاهِرِ فَهَاتَانِ حَرَكَتَانِ اخْتِيَارِيَّتَانِ. وَلِلْعَبْدِ حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِهَا، وَأَحْكَامِهَا: هُوَ عِلْمُ الطِّبِّ. فَهَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الْكَفِيلَةُ بِمَعْرِفَةِ حَرَكَاتِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَحَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَحَرَكَاتِ الطَّبِيعَةِ. فَالطَّبِيبُ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ تَأَثُّرِ الْبَدَنِ عَنْهَا صِحَّةً وَاعْتِلَالًا، وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ. وَالْفَقِيهُ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَتِهَا لِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَنَهْيِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَرَاهَتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ. وَالصُّوفِيُّ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً لَهُ إِلَى مُرَادِهِ. أَوْ قَاطِعَةً عَنْهُ، وَمُفْسِدَةً لِقَلْبِهِ، أَوْ مُصَحِّحَةً لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهِيَ الْإِجَابَةُ لِدَاعِي الْحَقِيقِيَّةِ فَـالْإِجَابَةُ هِيَ الِانْقِيَادُ، وَالْإِذْعَانُ. وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ: مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالشَّرِيعَةُ الْتِزَامُ الْعُبُودِيَّةِ. فَالشَّرِيعَةُ: أَنْ تَعْبُدَه. وَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تَشَهَدُهُ. فَالشَّرِيعَةُ: قِيَامُكَ بِأَمْرِهِ. وَالْحَقِيقَةُ: شُهُودُكَ لِوَصْفِهِ. وَدَاعِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ صِحَّةُ الْمَعْرِفَةِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ وَلَا بُدَّ. وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْإِجَابَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: نَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ. لَا تُعْوِزُ إِلَّا الدَّاعِيَ. وَدَعْوَةٌ مُسْتَمَعَةٌ، وَتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَانِعِ. فَمَا انْقَطَعَ مَنِ انْقَطَعَ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. وَقَوْلُهُ: طَوْعًا أَوْ كَرْهًا يُشِيرُ إِلَى الْمَجْذُوبِ، الْمُخْتَطَفِ مِنْ نَفْسِهِ، وَالسَّالِكِ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا وَمُجَاهَدَةً.
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ لِلْإِرَادَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَهَابٌ عَنِ الْعَادَاتِ بِصِحَّةِ الْعِلْمِ. وَالتَّعَلُّقُ بِأَنْفَاسِ السَّالِكِينَ، مَعَ صِدْقِ الْقَصْدِ. وَخَلْعُ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْإِخْوَانِ. وَمُشَتِّتٌ مِنَ الْأَوْطَانِ. هَذَا يُوَافِقُ مِنْ حَدِّ الْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا: مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ. وَهِيَ تَرْكُ عَوَائِدِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، وَرَعُونَاتِهَا وَبَطَالَاتِهَا. وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا. وَهِيَ: صُحْبَةُ الْعِلْمِ وَمُعَانَقَتُهُ. فَإِنَّهُ النُّورُ الَّذِي يُعَرِّفُ الْعَبْدَ مَوَاقِعَ مَا يَنْبَغِي إِيثَارُ طَلَبِهِ. وَمَا يَنْبَغِي إِيثَارُ تَرْكِهِ. فَمَنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعِلْمُ: لَمْ تَصِحَّ لَهُ إِرَادَةٌ بِاتِّفَاقِ كَلِمَةِ الصَّادِقِينَ. وَلَا عِبْرَةٌ بِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَتَى رَأَيْتُ الصُّوفِيَّ الْفَقِيرَ يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ. فَاتَّهِمْهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا: التَّعَلُّقُ بِأَنْفَاسِ السَّالِكِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِأَنْفَاسِ قَوْمٍ انْخَرَطَ فِي مَسْلَكِهِمْ. وَدَخَلَ فِي جَمَاعَتِهِمْ. وَقَالَ أَنْفَاسُ السَّالِكِينَ وَلَمْ يَقُلْ: أَنْفَاسُ الْعَابِدِينَ. فَإِنَّ الْعَابِدِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ. وَشَأْنُ السَّالِكِينَ مُرَاعَاةُ الْأَحْوَالِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ صِدْقِ الْقَصْدِ. يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَوْحِيدُهُ. وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الْمَقْصُودِ. فَلَا يَقَعُ فِي قَصْدِكَ قِسْمَةٌ. وَلَا فِي مَقْصُودِكَ. وَقَوْلُهُ: وَخَلْعُ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْإِخْوَانِ، وَمُشَتِّتٍ مِنَ الْأَوْطَانِ. يُشِيرُ إِلَى تَرْكِ الْمَوَانِعِ، وَالْقَوَاطِعِ الْعَائِقَةِ عَنِ السُّلُوكِ: مِنْ صُحْبَةِ الْأَغْيَارِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَوْطَانِ، الَّتِي أَلِفَ فِيهَا الْبَطَالَةَ وَالنَّذَالَةَ. فَلَيْسَ عَلَى الْمُرِيدِ الصَّادِقِ أَضَرَّ مِنْ عُشَرَائِهِ وَوَطَنِهِ، الْقَاطِعِينَ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلْيَغْتَرِبْ عَنْهُمْ بِجُهْدِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تُقْطَعُ بِصُحْبَةِ الْحَالِ، وَتَرْوِيحِ الْأُنْسِ، وَالسَّيْرِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. أَيْ يَنْقَطِعُ إِلَى صُحْبَةِ الْحَالِ. وَهُوَ الْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ تَأْثِيرِهِ بِالْمُعَامَلَةِ، السَّالِبُ لِوَصْفِ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ، الْجَالِبُ لَهُ إِلَى مُرَافَقَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَيَنْتَقِلُ مِنْ مَقَامِ الْعِلْمِ إِلَى مَقَامِ الْكَشْفِ، وَمِنْ مَقَامِ رُسُومِ الْأَعْمَالِ إِلَى مَقَامِ حَقَائِقِهَا وَأَذْوَاقِهَا، وَمَوَاجِيدِهَا، وَأَحْوَالِهَا. فَيَتَرَقَّى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وَأَمَّا تَرْوِيحُ الْأُنْسِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: فَإِنَّ السَّالِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَجِدُ تَعَبَ التَّكَالِيفِ وَمَشَقَّةَ الْعَمَلِ. لِعَدَمِ أُنْسِ قَلْبِهِ بِمَعْبُودِهِ. فَإِذَا حَصَلَ لِلْقَلْبِ رُوحُ الْأُنْسِ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ التَّكَالِيفُ وَالْمَشَاقُّ. فَصَارَتْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ. وَقُوَّةً وَلَذَّةً. فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عِبْئًا عَلَيْهِ. وَيَسْتَرِيحُ بِهَا، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ مِنْهَا. فَلَهُ مِيرَاثٌ مِنْ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ يَا بِلَالُ. وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَأُنْسِهِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَحْشَتِهِ مِمَّا سِوَاهُ. وَأَمَّا السَّيْرُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. فَـ " الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ " حَالَتَانِ تَعْرِضَانِ لِكُلِّ سَالِكٍ. يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْخَوْفِ تَارَةً، وَالرَّجَاءِ تَارَةً، فَيَقْبِضُهُ الْخَوْفُ. وَيَبْسُطُهُ الرَّجَاءُ. وَيَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْوَفَاءِ تَارَةً، وَالْجَفَاءِ تَارَةً، فَوَفَاؤُهُ: يُورِثُهُ الْبَسْطَ. وَرَجَاؤُهُ يُورِثُهُ الْقَبْضَ. وَيَتَوَلَّدَانِ مِنَ التَّفْرِقَةِ تَارَةً، وَالْجَمْعِيَّةِ تَارَةً، فَتَفْرِقَتُهُ تُورِثُهُ الْقَبْضَ. وَجَمْعِيَّتُهُ تُورِثُهُ الْبَسْطَ. وَيَتَوَلَّدَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَارِدِ تَارَةً. فَوَارِدٌ يُورِثُ قَبْضًا، وَوَارِدٌ يُورِثُ بَسْطًا. وَقَدْ يَهْجُمُ عَلَى قَلْبِ السَّالِكِ قَبْضٌ لَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَبَسْطٌ لَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَحُكْمُ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْضِ: أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ نَتِيجَةُ جِنَايَةٍ. أَوْ جَفْوَةٍ. وَلَا يَشْعُرُ بِهَا. وَالثَّانِي: الِاسْتِسْلَامُ حَتَّى يَمْضِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَقْتُ، وَلَا يَتَكَلَّفُ دَفْعَهُ. وَلَا يَسْتَقْبِلُ وَقْتَهُ مُغَالَبَةً وَقَهْرًا. وَلَا يَطْلُبُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ، وَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَمْضِيَ عَامَّةُ اللَّيْلِ. وَيَحِينَ طُلُوعُ الْفَجْرِ. وَانْقِشَاعُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَهْجُمَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ. فَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ. وَكَذَلِكَ إِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَارِدُ الْبَسْطِ: فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِاهْتِزَازِ. وَلْيُحْرِزْهُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِمَاشِ. فَالْعَاقِلُ يَقِفُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَيَحْذَرُ مِنْ الِانْبِسَاطِ، وَهَذَا شَأْنُ عُقَلَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَرُؤَسَائِهِمْ: إِذَا مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُبْسِطُهُمْ وَيُهَيِّجُ أَفْرَاحَهُمْ، قَابَلُوهُ بِالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي مَدْحِ الْمُهَاجِرِينَ: لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُـمُ *** قَوْمًا. وَلَيْـسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذُهُولٌ مَعَ صُحْبَةِ الِاسْتِقَامَةِ. وَمُلَازَمَةِ الرِّعَايَةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَدَبِ. الذُّهُولُ هَاهُنَا: الْغَيْبَةُ فِي الْمُشَاهَدَةِ بِالْحَالِ الْغَالِبِ، الْمُذْهِلِ لِصَاحِبِهِ عَنِ الْتِفَاتِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ مَصْحُوبًا بِالِاسْتِقَامَةِ. وَهِيَ حِفْظُ حُدُودِ الْعِلْمِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَعَدَمُ إِضَاعَتِهَا. وَإِلَّا فَأَحْسَنُ أَحْوَالِ هَذَا الذَّاهِلِ: أَنْ يَكُونَ كَالْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمَ. فَلَا يُقْتَدَى بِهِ. وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ الِاسْتِقَامَةَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُ الذُّهُولِ الْمُخْرِجَ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ، بِاسْتِدْعَائِهِ وَتَكَلُّفِهِ وَإِرَادَتِهِ: فَهُوَ عَاصٍ مُفَرِّطٌ، مُضَيِّعٌ لِأَمْرِ اللَّهِ. لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُفَرِّطِينَ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: مَتَى كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا. لَمْ يَكُنِ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا. وَقَوْلُهُ: وَمُلَازَمَةُ الرِّعَايَةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَدَبِ. يُرِيدُ بِهِ: مُلَازَمَتَهُ رِعَايَةَ حُقُوقِ اللَّهِ مَعَ التَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ. فَلَا يُخْرِجُهُ ذُهُولٌ عَنِ اسْتِقَامَتِهِ. وَلَا عَنْ رِعَايَةِ حُقُوقِ سَيِّدِهِ، وَلَا عَنِ الْوُقُوفِ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
|